كتابات | آراء

البردوني فيلسوف وشاعر وناقد

البردوني فيلسوف وشاعر وناقد

قبل أن يكون البردوني شاعراً مبدعاً، وناقداً لاذعاً، كان فيلسوفاً ساخراً، ورائياً لمستقبل لم يُؤلد بعد، عشق الأرض والوطن حتى الثمالة فبادله الوطن عشقاً بعشق رغم قسوة وشظف طفولته، وبؤس عيشه، ومكابدة مراحل حياته إلا أنه تأقلم معها،

وتكيف مع مستجداتها بإرادة قوية وعزيمة صلبة، حتى استطاع أن يوجد لنفسه مكانة مرموقة يُشار إليها بالبنان، اشتهر البردوني بقلمه الرشيق المبدع نثراً وشعراً ونقداَ، استطاع أن يُرهب بقلمه اللاذع عيون الفساد والمفسدين، فجاء شعره ساخراً لاذعاً مشحوناً بالإيحاءات المفعمة والدلالات والفيوضات المشحونة بالتأويل والتدليل، بالرغم من حياته القاسية التي عاشها بين المحبسين ورحل في أجواء غامضة تستدعي عدة تساؤلات واستفسارات، وترك الكثير من مخطوطاته النثرية والشعرية التي لم تطبع حتى الآن لأسباب مُبهمة وغامضة، إلى جانب ما تركه من تراث أدبي زاخر بالمآثر والموضوعات الفلسفية والأدبية المتنوعة والمبدعة بالنبوءات الاستشرافية التي تحققت بعد مماته، البردوني لم يمت فقد رحل جسداً وبقي روحاً وأدباً وشعراً وتراثاً ما دمنا نردد أشعاره وقصائده وحكمه ورؤاه على مدى الزمن، لأن العظماء من المبدعين والنوابغ النوادر لا يموتون، بل تظل مآثرهم وإبداعاتهم خالدة في ذاكرة الشعوب جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لذا لابد من الإشارة إلى البردوني بأنه كان مدرسة شعرية في الأدب فريدة من نوعها، ونادرة في إيحاءاتها ومفرداتها ومصطلحاتها، فهو يمثل فلتة من فلتات الإبداع في زمن غاب فيه الكثير من المبدعين إلا ما ندر، عاش البردوني فترة مليئة بالصراعات السياسية والفكرية والثقافية، وعاصر أحداثاً ساخنة مع السلطة آنذاك فترجمها نثراً وشعراً ونقداًـ أشتهر البردوني بكثرة تساؤلاته المتعددة في الكثير من أشعاره وقصائده علها رسائل تصل إلى جهات معنية، ولكن لا حياة لمن تنادي، رغم تمرده اللغوي والشعري والدلالي إلا أنه استطاع أن يطرق أبواب المفسدين والفاسدين من هوامير الفساد بفطنته وذكائه، وسرعة بديهته، فجاء شعره متلبساً بثوب الشيطنة والإيحاءات المبطنة والتأويلات المبهمة فهو القائل: "عرفت لماذا كنت قتلي وقاتلي لأن الذي يعطيني الخبز آكلي".. هكذا كان شاعرنا البردوني يسبح في بحور الإيحاءات المبُهمة، والدلالات المشحونة بالمسافات اللغوية المتوترة ... يصنع الحدث ويقوده كيفما يشاء، ومتى ما يشاء، لأن الشعر عند البردوني ليس له مسارات محددة، ولا مفردات محصورة، بل فضاءات لا نهاية، ومدارات لا محدودة، وفيوضات ماورائية، هذا الانقلاب اللغوي والإيحائي والدلالي كان مدرسة بردونية خالصة لدى البردوني شعارها "فيض المعني" اللانهائي اللامحدود من خلال المفردات والمصطلحات المُفخخة والومضات الخافضة المتوترة برؤى متعددة ومتباينة والصور الشعرية المجُنحة بالجزئيات المُبهمة، إنه النص البردوني المبُدع والرائع في زمن غاب فيه الإبداع والمبدعون إلا ما ندر جاء، في بعض أشعاره:
"دمي صار ماءً رمدتني وحوله..
قميصي أتخشى أن تفيق شواعلي؟!
تصيغ إلى شيء يجادل هجعتي
ومن أي ذراتي ينادي مجادلي..؟!
هكذا تسير النصوص البردونية في صراع دائب دامٍ مع الذات والحدث، وهنا تتولد المعاني والدلالات المشحونة بفيض الإيحاءات المتباينة، والومضات الخاطفة، وهذا سر إبداع النصوص البردونية التي توحي لنا بأن البردوني لم يكن شاعراً عادياً، بل كان فيلسوفاً وشاعراً وناقداً ومفكراً وناثراً وثائراً، قلما يجود الزمان بمثله، رحل جسداً، وبقي روحاً وفكراً وأيقونة متألقة مدى الزمن، وسيظل تراثه الأدبي الزاخر بالحكم والعبر والدروس منارة لكل الأجيال الصاعدة والقادمة على مرّ الزمن.

فيوضات شعرية
أطلي على الأرض كالقبلة الواعدة
أطلي على الشعب روحة ساجدة
أطلي كتعويذة طاردة
تضمد جراح المُستجير
تفوح أنداؤها كالعبير
فقدناك يا روعة النذير
في ساعة الرحيل..؟!

أخبار الجبهات

وسيبقى نبض قلبي يمنيا
لن ترى الدنيا على أرضي وصيا