
من يهدد أمن المنطقة الرواية الصهيونية بين التضليل والواقع
محمد الصلاحي
نجح العدو الأمريكي والاسرائيلي، عبر وسائل الإعلام والنفوذ الدبلوماسي، في تشكيل رأي عام عربي وعالمي يحمّل محور الجهاد والمقاومة مسؤولية عدم الاستقرار في المنطقة.
وقد اعتمدت هذه السردية على ربط أي تصعيد أمني أو مواجهة عسكرية بوجود حركات المقاومة، وتصويرها على أنها العامل الرئيس في زعزعة الأمن الإقليمي. وقد تم تعزيز هذا الطرح من خلال حملات إعلامية مكثفة، روجت لفكرة أن إيران، باعتبارها الداعم الأساسي لحركات المقاومة، هي المحرك الأساسي للفوضى والاضطرابات، مما أدى إلى تصاعد الخطاب المعادي لها في العديد من الأوساط السياسية والإعلامية العربية والدولية. هذا التوجيه المتعمد للرأي العام لم يكن مجرد اجتهاد إعلامي، بل جاء في سياق إستراتيجية أوسع تهدف إلى صرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للصراعات، والمتمثلة في الاحتلال الإسرائيلي والتدخلات الغربية المستمرة في شؤون المنطقة.
إلا أن الأحداث الأخيرة كشفت بوضوح زيف هذه الادعاءات، خصوصاً في ظل التصريحات العلنية للقيادة الإسرائيلية حول مخططاتها التوسعية. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث رئيس وزراء حكومة الاحتلال الاسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحة عن مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وهو مفهوم يعكس رغبة الاحتلال في إعادة هيكلة المنطقة سياسياً واقتصادياً وفق مصالحها، مستغلة التغيرات الجيوسياسية وواقع التطبيع مع بعض الدول العربية. في المقابل، جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول خطط تهجير سكان غزة وتحويل القطاع إلى منطقة سياحية بمثابة تأكيد آخر على المخططات الصهيوأمريكية الرامية إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالح الاحتلال على حساب الحقوق العربية والفلسطينية. هذه الخطط لا تقتصر على غزة وحدها، بل تتجاوزها إلى مشاريع تهدف إلى تعزيز الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة بأكملها، في تجاهل تام للمواثيق الدولية وحقوق الشعوب.
إن هذه المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن عدم الاستقرار في المنطقة ليس ناتجاً عن وجود محور المقاومة، كما يروج له الإعلام الغربي والصهيوني، بل هو نتيجة طبيعية للسياسات التوسعية الإسرائيلية والدعم الأمريكي غير المحدود لها. فالاحتلال الإسرائيلي، المدعوم بسياسات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، لم يتوقف يوماً عن التوسع، بل يسعى إلى فرض واقع جيوسياسي جديد يخدم مصالحه الاستعمارية، مستغلاً حالة الانقسام العربي وضعف الموقف الإقليمي في مواجهة مشاريعه. ومن هنا، يصبح من الواضح أن تحميل المقاومة مسؤولية الفوضى هو مجرد تضليل إعلامي يهدف إلى حرف الأنظار عن الممارسات العدوانية الإسرائيلية والانتهاكات المستمرة بحق الشعوب العربية.
الأمر الأكثر خطورة هو أن هذه المشاريع الصهيوأمريكية لا تهدد الفلسطينيين وحدهم، بل تتجاوز ذلك إلى تهديد مصالح الدول العربية، بما في ذلك تلك التي اختارت مسار التطبيع مع إسرائيل. فرغم توقيع بعض الدول العربية اتفاقيات سلام وتطبيع، إلا أن السياسات الإسرائيلية لا تزال تمثل تهديداً لأمنها واستقرارها، حيث تسعى إسرائيل إلى تحقيق مكاسب إستراتيجية على حساب الجميع، بما في ذلك حلفاؤها. وهذا ما يثبت أن التطبيع، الذي رُوّج له باعتباره مدخلاً لتحقيق الأمن والاستقرار، لم يكن سوى خطوة لتعزيز النفوذ الإسرائيلي دون تقديم أي ضمانات حقيقية للدول العربية. فإسرائيل، التي تدّعي السعي إلى السلام، لم تتخلّ عن سياساتها العدوانية ولم تتوقف عن التوسع والهيمنة، بل باتت تستخدم التطبيع كأداة لتعزيز مصالحها دون أن تقدم أي تنازلات فعلية تضمن استقرار المنطقة.
في ظل هذه الحقائق، يصبح من الضروري إعادة تقييم الخطاب السائد بشأن أسباب التوتر في المنطقة، والاعتراف بأن المقاومة ليست مصدراً للفوضى، بل هي رد فعل مشروع على الاحتلال والاستيطان والتوسع الإسرائيلي. أما التهديد الحقيقي، فهو استمرار المشاريع الصهيونية بدعم أمريكي، وما تحمله من مخاطر على مستقبل المنطقة برمتها، بما في ذلك الدول التي راهنت على خيار التطبيع. وبالتالي، فإن تحقيق الأمن والاستقرار لا يمكن أن يتحقق من خلال التحالف مع الاحتلال الاسرائيلي أو تقديم التنازلات لها، بل عبر موقف عربي موحد يواجه المخططات الصهيونية، ويعيد التوازن إلى المنطقة على أسس عادلة تحفظ حقوق الشعوب وتحمي سيادتها.